تركة بنموسى التربوية

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لقد ارتبطت السياسات والاختيارات التربوية، أشد ما يكون الارتباط بحاملي حقائبها. فقد تعددت بتعدد الوزراء الذين دبروا الشأن التعليمي منذ الاستقلال. فمنذ محمد الفاسي، الذي عمل على وضع قطار التعليم على سكة الواقع الجديد الاقتصادي والاجتماعي، إلى السيد بنموسى الذي راهن على استدراك التعلمات الأساسية المهدورة، حتى يكون التعليم بالفعل قاطرة للنموذج التنموي الجديد.

المذاهب التربوية للحقائب الوزارية:

لا تخلو فترة حكومية من قضية أو مسألة تربوية مركزية يُكرس لها الوزير الجديد كل الجهود، وتتخذ بوصلة توجه اجتهادات كل العاملين، وتُسخّر كل الإمكانيات المتاحة. وهكذا تراوحت هذه الجهود بين توفير البنية المادية للعمل التربوي المدرسي، إلى الهيكلة، ولغة التدريس وتعميمه، و… وما ميز المراحل التأسيسية للمدرسة الوطنية المغربية، تكوين اللجان لقيادة التحولات، وتحقيق الإقلاع التربوي المنشود، رغم أن بعضها لم يكن يعمر طويلاً، و«قرارات اللاحقة تعارض السابقة» (المكي المروني).

وتحتفظ الذاكرة القريبة للمتتبعين للشأن التعليمي كيف قلب المرحوم الوفا الطاولة على سابقه اخشيشن، وترك أوراق بيداغوجية الإدماج تلوح بها الرياح بعيداً عن الفصول الدراسية. ومثل هذا النسخ والمحو في الميدان التعليمي، لم يقف عند حدود تلك اللحظة، بل وجدناه ممتداً، وأكثر عنفواناً، مع السيد بنموسى ومدرسته الرائدة.

هذه المدرسة التي تصلح عنواناً «لمذهب بنموسى الجديد»، وشريعة تربوية يهتدي بها المشروع الإصلاحي الحالي. مذهب ألغى موروثاً تربوياً عريقاً، وانقلاباً بيداغوجياً على مستوى تدبير الفصول الدراسية، تجهيزا وتنظيماً لقواعد السلوك، تجديد طال قواعد المقرر الدراسي، كما اقتلع من الأذهان مستويات التلاميذ المتعارف عليها، وطرح بدلاً منها: المستوى المناسب، الذي تحدده روائز هندية الهندسة والمنشأ.

من النموذج التنموي الجديد إلى المدرسة الجديدة:

إن الحديث عن المدرسة الجديدة الرائدة في عهد الوزير بنموسى يقودنا حتماً إلى الحديث عن النموذج التنموي الجديد، لارتباط هذا بذاك، أليس التعليم قاطرة التنمية؟ وهو المهندس لتقريره الذي راهن على التعليم لتحقيق النهضة التنموية المنشودة. فقد آمن الرجل بأن لا اندماج اجتماعي، ولا نجاح مهني، بدون التمكن من المهارات الأساسية التي تمنحها المدرسة. وقد جعل من سنة 2035 أفقاً ليتمكن 90% من المتعلمين من هذه المهارات، عوض 30% المسجلة حالياً.

وليست هذه المهارات سوى القراءة والكتابة والحساب، حيث لوحظ أن تأخرنا في التصنيفات الدولية راجع إلى الضعف المسجل فيها. لتجاوزه، تبنت الوزارة في عهده وصفة تبدو سحرية لمعالجة الأورام التي تحول دون تملكها، إنها مقاربة طارل التي تروم استدراك التعلمات المفقودة، والتي كرست الوزارة كل الجهود، وسخرت الكثير من الإمكانيات المادية والتقنية، لإقناع الفاعل التربوي بجدواها، والأسر بفعاليتها، أملاً في انخراط الجميع في ركبها.

لعل هذا النوع من المدارس، جعل مبدأ التوحيد، وحق المغاربة في مدرسة واحدة وموحدة، على المحك مرة أخرى. فقد كان للمغاربة سوابق في التنصل من المبادئ الأربعة التي أطرت التعليم بالبلاد، وكانت بين شد وجذب بين مختلف الفاعلين السياسيين أساساً قبل التربويين. ونذكر هنا مناظرة المعمورة، التي شهدت نقاشاً حاداً بين أنصار التعريب وأنصار الازدواجية، وقد مضى قطار الازدواجية تحت مسميات شتى. كما كان الأمر نفسه مع التعميم في مناظرة إفران، وسيبرز الأمر أكثر باستحداث ثانويات التميز في عهد اخشيشن باعتبارها مشتلاً لنخب المستقبل. لكن المعارضة الشديدة التي ووجهت بها عجّلت بإغلاقها، بقرار سياسي من المرحوم الوفا. أما التمييز الذي نشهده اليوم مع مدارس الريادة، فقد اختلف في توصيفه. فمن الناحية المادية، فمدارس الريادة أكثر جاذبية، نظراً للتأهيل المادي الذي عرفته، والتجهيز الرقمي غير المسبوق لفصولها، ويبقى محتوى التعلمات محط خلاف ومثيراً لردود فعل متباينة. فالبعض يراها لا ترقى إلى انتظاراتهم، ولا تلبي حاجات أبنائهم المعرفية والمهارية، فهم لا يرجون من المدرسة بعد سنوات من التردد عليها، أن تعود بأبنائهم القهقرى لما سبق أن تمكنوا منه، ويختزل اليوم الدراسي في القراءة والكتابة والحساب. في حين هو بالنسبة للبعض الآخر قرار حكيم، فلا معنى أن يتدرج الطفل في المستويات من الأدنى إلى الأعلى، دون تملكه الكفايات الأساس اللازمة لمواصلة مساره الدراسي بنجاح، إنه هدر مدرسي مؤجل أو مقنع، «فما بني على باطل، فهو باطل».

التجريب المفضي إلى التأبيد:

مضى الوزير في تنزيل مذهبه، من التجريب المحدود إلى الموسع، واعداً بتعميمه، بعدما منح الحرية للمؤسسات بقبوله أو رفضه، لكن النتائج التي تبشر بها المدرسة الرائدة لا يمكن رفضها. فالرفض يعني التشبث بتقليدية المدرسة ومكوثها خارج النسق الرقمي. وهو رفض للنتائج المبهرة التي تحققها في ظرف قياسي، بحيث يمكن استدراك تعلمات سنتين في ظرف أقل من شهر، مما يسمح للمتعلم بمواصلة تعليمه بشكل أفضل، والرفع من المؤشرات التي تسمح للبلد بتبوؤ مراتب متقدمة في التصنيفات الدولية، عوض تذييل أسفل القائمة.

ولا يمكن أن تؤدي المدرسة دورها، وتحقق الأهداف المتوخاة منها، وتكون عنصر جذب، وفضاء للاستمتاع الهادف، بدون أنشطة موازية ورياضية. فهي التي تضفي الحيوية والبهجة على الحياة المدرسية، وقد منحتها المدرسة الرائدة مساحة واسعة، كما أفردت للتعلم باللعب والنشط المكانة التي يستحقها، حيث أكدت العديد من الدراسات أنه تعلم راسخ وفعال.

فلكل هذا وذاك، أقبل القائمون على الشأن التربوي باستقدام فريق خبرة هندي منذ أبريل 2022، لتأطير ورشات تكوينية على المقاربة، ولم يتم الاكتفاء بنسخها وتنزيلها، واستيراد النظرية دون مهندسيها، الشيء الذي يؤكد الإيمان الحاصل بجدواها، وفعاليتها في معالجة الأورام التي تشكوها المنظومة، بعدما جربت العديد من الوصفات قبلها، لكن الداء لا يزداد إلا استفحالاً، وهو ما يفقد الثقة في المدرسة العمومية وجودتها، فالرهان كبير لاسترجاعهما، والأمل الذي لا يساوره شك، معقود بناصية طارل.

كم حاجة قضيناها بقولها:

ولم يشذ بنموسى عمن سبقوه من الوزراء في تنظيم المناظرات والمنتديات والورشات، لتبادل الرأي، وتبديد الشكوك في المشروع الإصلاحي، وإقناع المتردد في قبوله والانخراط في تفعيل مضامينه. وإن كان قد شذ عنهم في منح الأطر التربوية حق قبول أو رفض الانخراط في مدارس الريادة. لكن العزم قائم على توسيع دائرة المقتنعين، باستثمار أساليب الإقناع الحديثة، واستقدام المقنعين من كل الأطياف المحلية والدولية. فكان المنتدى الوطني للأستاذ، الذي جمع لفيفاً من الخبراء والفاعلين التربويين، تدارسوا في موائد مستديرة وورشات وعروض ما استجد في الحقل البيداغوجي، والاطلاع على مختلف التجارب الناجحة في التعليم والتعلم، وذلك كله لشحذ الهمم لتجاوز التحديات التي تقف في وجه المنظومة التربوية، والأخذ بيد ناشئتنا للنجاح العلمي والحياتي، والتي تشكل مدارس الريادة بوابته الأوسع، وعليها يقع الرهان لاستعادة الثقة في المدرسة العمومية وجودة خدماتها. لهذا فهو يسعى إلى تكريسها كمدرسة للمستقبل، وسط مجموعة من الانتقادات التي صدرت عن أكثر من جهة، أبرزها من رئيس المجلس الأعلى للتعليم، الذي يعتبر «أنها لا تزال متأخرة في محاربة الانقطاع الدراسي والهدر المدرسي».

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق