لم يتوقع أكثر المتفائلين بأن دعوى جنوب إفريقيا التى تقدمت بها فى 29 ديسمبر 2023 ، ضد إسرائيل فى محكمة العدل الدولية و توجية تهمة الإبادة الجماعية فى غزة ، بأن قرار المحمكة سوف يرقى إلى إصدار مذكرة إعتقال ضد رئيس وزراء دولة الإحتلال بنيامين نتنياهو ، و وزير دفاع جيش الإحتلال ، وذلك بسبب الدعم الإمريكي و الغربى اللامحدود و الذى إعتمد منذ بداية الأزمة على تزييف الحقائق و تخدير الضمير الإنسانى العالمى ، كما يتم تزييف الإرادة الدولية بواسطة الفيتو الأمريكى الذى تم إستخدامه عدة مرات لقصف أى قرار يدعم وقف إطلاق النار و إدخال المساعدات إلى شعب غزة الذى يقاوم ببسالة فصل من فصول مخطط إستعمارى لمنطقة الشرق الأوسط جارى تنفيذه برعاية إمريكية و مباركة غربية و مشاهدة صينية روسية .
و بالنظر إلى قرار المحكمة الدولية الذى صدر بالرغم من الضغوط الإمريكية التى وصلت إلى حد التشكيك فى شرعية المحكمة و بالتالى فى أحكامها ، و بما أن القرار قد صدر بهذه الصيغة غير المتوقعة وبعد فترة وجيزة نسبياً مقارنة بطبيعة الأحكام القضائية ، فإن هذا القرار سيكون سبباً فى تغيير العالم ، فهذا القرار سيغير العالم بصورة لن تقل عن التغير الذى لحق به بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث نجد أن النظام الدولى الذى يحكم العالم اليوم هو نظام القطب الأوحد الذى تتزعمه الولايات المتحدة الإمريكية و ما يدور فى فلكها من الدول الغربية ، بالرغم من محاولات الصين و روسيا إلى تغير النظام الدولى إلى نظام متعدد الأقطاب طمعاً فى عالم أكثر عدالة ، و محاولات معظم دول العالم إلى تغيير نظام الأمم المتحدة و فى القلب منها مجلس الأمن و يتقدم هذا التغيير الأمين العام للأمم المتحدة نفسه و الذى يرى أن المنظمة العالمية تحولت إلى جليسة أطفال وقت الحروب ، و لكن فى المحصلة فهيمنة القطب الواحد هى القائمة و هى التى تتحكم فى مجريات النظام الدولى شكلاً و معنى و حقيقة .
بالإضافة إلى ما سبق نجد أن مبادئ الإيديولوجية الليبرالية الحاكمة للنظام الأمريكي و الغربى ، و المكون الأساسي للعولمة ذراع الغرب فى السيطرة على العالم و إزالة حدود الدول و تحويل العالم إلى قرية كونية صغيرة قد إعتمدت على قاعدتين إساسيتين هما حقوق الإنسان و سيادة القانون ، و قد تم نسف نظرية حقوق الإنسان منذ الأيام الأولى للحرب بدعوى أن آلة الحرب الإسرائيلية تستهدف الدفاع عن النفس للدولة الوحيدة الديمقراطية فى العالم التى يحيط بها أعداء من جميع الجهات ، و تبقى مبدئ سيادة القانون .
وجاء قرار المحكمة الدولية ليضع الغرب فى مفترق طرق و إختبار حقيقى لأهم مبادئه المزعومة ، حيث وجدنا معظم الدول الغربية أبدت رغبتها فى إحترام القانون و أنها ستنفذ القرار كما جاء على لسان بعض وزراء دول الغرب و فى القلب منهم منسق السياسة الأوربية جوزيف بوريل ، فى حين رفضت قيادات دولة الإحتلال القرار و بالطبع الإدارة الأمريكية ، و هو ما قد يعنى أن باقى الدول الغربية لن تستطيع مواجهة الرأى العام الداخلى الذى يرى أن سيادة القانون أهم المبادئ الذى يتباهى بها حكامه ، خاصة مع تصدر الأحزاب اليمينة المتطرفة المشهد السياسي فى العديد من الدول الأوربية الكبرى كألمانيا ، و فرنسا ، وإيطاليا ، وغيرها من الدول .
عليه يمكن القول أن بعض الدول الغربية بدأت تقفز من سفينة دعم إسرائيل الأمريكية لضمان بقاء أفكارها التى منحتها التفوق على الكتلة الشرقية التى تسعى إلى إستعادة مكانتها الدولية بعد عقود من طمس هويتها ، و لن يكون أمام الغرب سوي التضحية بنتنياهو و إعادة بناء قيادة إسرائيلية تتولى تنفيذ وظائف دولة الإحتلال التى تم غرسها فى جسد المنطقة لتحقيق مصالح القوى الإمبريالية .
0 تعليق