اختار باحثون في علم النفس وقضايا الأًسرة التفاعل سريعاً مع توصية المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بتحديد سن الرشُد الرقمي، كإجراءٍ يعوّل عليه لحماية الأطفال القاصرين دون هذا السن من المخاطر المتربصة بهم على شبكات التواصل الاجتماعي، مُنّبهين إلى وجود تحديات كثيرة تعترض تنفيذه، تتمثّل أساساً في “غموض المقصود بهذا الرشد، وكذا اختلاف الأطفال من السن نفسها على مستوى السلوك والنضج العقلي والرقمي”.
وأوصى المجلس الاقتصادي والاجتماعي، في رأي حديث له، بسط خلاله عدة معطيات مقلقة بشأن المخاطر التي يتعّرض لها الأطفال المغاربة داخل الفضاءات الرقمية، بـ”تحديد سن الرشد الرقمي، أي إرساء السن التي يمكن للطفل الولوج فيها إلى شبكات التواصل الاجتماعي، مع اتخاذ تدابير تقييدية للمنصات، مثل الالتزام برفض تسجيل القاصرين دون موافقة الوالدين”.
وتتجّه دول كثيرة إلى منع الأطفال دون سن معينة من تملك حسابات داخل المنصات التواصلية، مثل فرنسا التي سبق أن أعلن رئيسها في يونيو الماضي تأييده حظر شبكات التواصل الاجتماعي على الأطفال دون سن 15 عاما، واستخدام الهواتف المحمولة على الأطفال قبل سن 11 عاما، والولايات المتحدة التي تقدم عدد من نوابها بالكونغرس بمشروع قانون لجعل الحد الأدنى لاستخدام هذه المنصات هو 13 سنة.
ويُقر باحثون بأنه “من غير الممكن” تحديد سن الرشد الرقمي، في غياب وضوح هذا المصطلح؛ ورغم أنهم يقترحون “اتباع الأسرة والمؤسسات التعليمية ومزودي الإنترنت إجراءات موزعة على مراحل قبل بلوغ الطفل 12 سنة، من أجل إيصاله إلى الرشد الرقمي في هذا السن”، فإنهم يؤكدون أن الأخير “لا يمكن أخذه كمعيار للنضج الرقمي، ما دام أن كُثراً تفوق أعمارهم الأربعين ولم يصلوا بعد إلى هذا الرشد”.
“صعوبة التحديد”
محسن بنزاكور، المُتخصص في علم النفس الاجتماعي، قال إنه “من غير الممكن تحديد سن الرشد الرقمي بشكل دقيق، لأن معرفة المقصود بالرُشد أو النُضج الرقمي أساساً تَطرُح إشكالاً”، مُوضحاً أنه “إذا كان المعني به التوظيف العقلاني لشبكات التواصل الاجتماعي والفضاءات الرقمية عُموماً، الذي يُحافظ على السلامة النفسية للأطفال ويحمهيم من المخاطر التي تتربص بهم في هذه الشبكات، من قبيل التحرش والاستقطاب للتطرف، إلخ، والمحافظة على تحصيلهم الدراسي وسلامة علاقتهم بأسرهم، فيمكن الحديث عن الرُشد آنذاك”.
وأبرز بنزاكور، في تصريح لهسبريس، أنه “من المُمكن أن نُوصل الطفل إلى الرُشد الرقمي بهذا المعنى عند بلوغه 12 سنة إذا قسّمنا علاقته بالهاتف قبل وصوله إلى هذه السن على أربع مراحل”، مُضيفاً أنه “خلال المرحلة الأولى، التي تمتد مما قبل بلوغ الطفل ثلاث سنوات، يُمنع عليه الهاتف منعاً باتاً، لأن الأخير يعيق النمو الطبيعي الذي يحتاجه دماغه وجسده”.
وأضاف المتخصص في علم النفس الاجتماعي أنه “خلال المرحلة الثانية، من بلوغ الطفل سن الثالثة إلى سن السادسة، يجب أن يتم جعل الطفل يكتشف الشاشات الكبيرة حتى يستأنس بها وينتمي إلى جيله”.
“وما بين 6 و9 سنوات تأتي المرحلة الثالثة، التي يجب أن يُصاحبَ فيها الآباء استخدام طفلهم الهاتف، الذي لا يجب أن تتجاوز مدته ثلث إلى نصف ساعة في اليوم، بغرض تربيته على الاستعمال المعقلن لهذه الوسيلة ككل، ولفضاءات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية تحديداً”، يورد بنزاكور، مُضيفاً أنه “موازاةً مع ذلك يجب أن تضطلع المدرسة خلال هذه المرحلة بدورها في تنمية معارف الطفل وإدراكه بشأن هذه الفضاءات من خلال التربية الرقمية”.
وشددّ المتحدث نفسه على أن “الإشكال الذي سيطرح على هذا المستوى أنه ليست كل الأسر قادرة على تأهيل أبنائها ليصبحوا راشدين رقمياً، وبناءً على ذلك نحتاج دلائل وإستراتيجية لمساعدتها على هذه العملية”، مُستحضراً أنه “خلال السنوات الأخيرة تدهورت العلاقات داخل الأسر بسب عدم قدرة الآباء على ضبط تعامل أبنائهم مع الهواتف”.
وتابع المختص في علم النفس الاجتماعي، بخصوص المرحلة الرابعة، بأنه “ما بين 9 و12 سنة يجب أن يتم تأهيل الطفل ليكون قادراً على مواجهة الصعوبات والتحديات التي تطوقه خلال استخدامه الإنترنت، مثل التنمر والمواقع الإباحية والاستدراج للجماعات المُتطرفة”، مُضيفاً أن “مسؤولية الوصول إلى هذا الرُشد موزعة بين الأسر والمؤسسات التعليمية، وكذا شركات الاتصالات المزودة بالإنترنت التي يجب أن تتيح للآباء استخدام أدوات رقابة الأهل Contrôle parental مجاناً”.
وأوضح بنزاكور أنه “في نهاية المطاف ليس حتمياً أن يصل الأبناء إلى الرشد في هذه السن، فهناك كثير من الأفراد الذين تفوق أعمارهم أربعين سنة أحياناً ومازالوا لم يصلوا إلا الرشد الرقمي، ويكفي هنا فقط استحضار مثال ترتيب المغاربة على مستوى تصفح المواقع الإباحية في العالم للدلالة على استحالة تحديد سن معيّن للرشد”.
“إشكالية التمييز”
محمد حبيب، باحث في علم النفس وقضايا الأسرة، قال إن “تحديد سن الرُشد الرقمي يختلف بين دول العالم، بناء على اعتبارات ثقافية أو قانونية؛ ففي دول الاتحاد الأوروبي غالباً ما يتم ربط هذا السن بذلك الذي وضعته اللائحة العامة لحماية البيانات GDPRK، للموافقة على معالجة البيانات الرقمية للأطفال، أي 16 عاماً، مع إمكانية تخفيض بعض هذه الدول هذه السن إلى 13 سنة”.
وأضاف حبيب، في تصريح لجريدة هسبريس، أنه “في ما يخص الجانب النفسي استحضرت هذه الدول في تحديد سن الرُشد الرقمي السن التي يُصبح فيها الطفل ناضجاً رقمياً، وقادراً على اتخاذ قرارات واعية خلال تصفحه للأنترنيت، وواعياً بأهمية الحفاظ على خصوصيتة الرقمية وبكيفية فلترة المحتوى المناسب من غير المناسب، وكذا طرق التعامل مع هذا الأخير”.
وأكد الباحث في علم النفس وقضايا الأسرة أنه “في الدول العربية غالباً ما يتم تحديد سن الرشد الرقمي بناء على مزيج من التشريعات والقوانين المنظمة لاستخدام الأنترنيت”، مُوضحاً أن “المغرب لا يتوفّر على نص قانوني يوضح هذه السن، وعلى هذا الأساس فإنه يُعتمد بشكل غير مباشر على السن الذي تضعه منصات التواصل الاجتماعي كـ’فيسبوك’ و’إنستغرام’ كحد أدنى للسماح بالتسجيل فيها، أي 13 سنة”.
وشددّ حبيب بدوره على أن “الرغبة في تجنيب الأطفال مخاطر استخدام الإنترنت، من خلال منع ولوجهم قبل سن معيّن إلى منصات التواصل الاجتماعي، مفهومة بل ضرورية، غير أن تحديد هذه السن قد ينطوي على إثارة نوع من التمييز، فليس جميع الأطفال في سن معينة يملكون القدرات والمهارات نفسها ومستوى النضج العقلي نفسه”، مردفا: “على هذا الأساس فإن السن لا تكون حاسمة للحديث عن الرشد الرقمي للطفل، وإنما مستوى إدراكه ونُضجه وكذا تلقيه معارف ومهارات للتعامل مع الفضاءات الرقمية، لاسيّما من خلال التربية الرقمية التي يجب أن تحرص الوزارة على إدراجها ضمن المناهج المقررة لطلبة الإعدادي والثانوي”.
0 تعليق