الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية.. شراكة واعدة أم تهديد وجودي؟

البوابة العربية لأخبار التقنية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لقد شهدنا خلال السنوات الماضية تحولًا جذريًا في علاقة عمالقة التكنولوجيا بمصادر الطاقة التقليدية، فمع تزايد طلب الطاقة لتشغيل مراكز البيانات الضخمة التي تدعم الذكاء الاصطناعي، اتجهت كبرى الشركات التقنية مثل: جوجل، وأمازون، ومايكروسوفت إلى استكشاف بدائل أكثر استدامة وكفاءة.

وقد تجسد هذا التحول في الاستثمارات الضخمة التي أعلنتها هذه الشركات في قطاع الطاقة النووية، فبعد عقود من التخلي عن الطاقة النووية بسبب مخاوف السلامة والتكاليف المرتفعة، عادت هذه التقنية إلى الواجهة مرة أخرى، مدفوعة بابتكارات جديدة في مجال المفاعلات النووية الصغيرة (SMRs)، التي تُعدّ أكثر أمانًا ومرونة من المفاعلات التقليدية.

ولكن ما الذي يجعل الطاقة النووية جذابة لهذه الشركات العملاقة وليست الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح أو طاقة الشمس، وما المفاعلات النووية الصغيرة، وما التحديات التي تواجه الولايات المتحدة في تطويرها، وهل ستدفع هذه المفاعلات الابتكار والاستدامة في مجال الذكاء الاصطناعي أم نحن على شفا عصر جديد من الكوارث مثل تشيرنوبيل وفوكوشيما و(Three Mile Island)، التي لاتزال محفورة في الذاكرة؟

أولًا؛ من الشركات التي بدأت الاستثمار في مشاريع الطاقة النووية؟

أعلنت كل جوجل وأمازون ومايكروسوفت استثمارات ضخمة في مشاريع الطاقة النووية، وتهدف هذه الاستثمارات إلى بناء محطات طاقة نووية جديدة، أو إعادة تشغيل محطات قديمة. وتُعدّ هذه الشركات المنافسة هي أكبر ثلاث شركات تقدم حلول الحوسبة السحابية في العالم، كما كانت من بين أكبر الشركات التي تبنت نماذج وتقنيات الذكاء الاصطناعي وقدمتها للعملاء، سواء الشركات الأخرى أو المستخدمين، لذلك ليس من قبيل المصادفة أن تكون هذه الشركات هي من أكبر المستثمرين في في هذا المجال.

إليك لمحة عن أهم مشاريع الذكاء الاصطناعي النووية التي أُعلنت حتى الآن:

1- جوجل:

أبرمت شركة جوجل اتفاقية مع شركة (Kairos Power) الناشئة المتخصصة في الطاقة النووية، بهدف بناء 7 مفاعلات نووية صغيرة لتشغيل مراكز بياناتها. وتعد هذه المفاعلات حلًا واعدًا لتوفير طاقة نظيفة وموثوقة، إذ تتميز بتصميمها البسيط وأنظمة السلامة المتطورة.

ومن المتوقع أن تساهم هذه الشراكة في توفير نحو 500 ميجاواط من الطاقة الخالية من الكربون بحلول عام 2035، مما يدعم هدف جوجل في تحقيق الحياد الكربوني.

2- مايكروسوفت:

أعلنت شركة مايكروسوفت خطط لإعادة تشغيل محطة (Three Mile Island) النووية المغلقة في بنسلفانيا – التي شهدت أسوأ حادث نووي في الولايات المتحدة – وذلك بالتعاون مع شركة (Constellation Energy) بحلول عام 2028، ويهدف هذا المشروع إلى توفير نحو 835 ميجاواط من الطاقة لتلبية احتياجات مراكز  بيانات مايكروسوفت. ولم يسبق من قبل أن عادت محطة نووية أمريكية إلى الخدمة بعد إيقاف تشغيلها، ولم يُخصص كل إنتاج محطة طاقة نووية تجارية واحدة لعميل واحد من قبل أيضًا!

ولم تتوقف مايكروسوفت عند هذا الحد، بل وقعت اتفاقية مع شركة (Helion Energy) لاستكشاف إمكانيات طاقة الاندماج النووي كمصدر مستقبلي للطاقة، وتُعدّ طاقة الاندماج من أهم التقنيات الواعدة في مجال الطاقة النووية، إذ توفر كميات ضخمة من الطاقة النظيفة دون إنتاج نفايات نووية خطيرة.

وفي خطوة موازية، أشارت بعض التقارير في وقت سابق من هذا العام إلى أن مايكروسوفت و OpenAI تعملان سرًا على تطوير حاسوب عملاق غير مسبوق يستخدم ملايين الرقاقات المتخصصة للخوادم لتشغيل الذكاء الاصطناعي، وقد يُكلف ما يصل إلى 100 مليار دولار، ويحمل الاسم الرمزي (Stargate)، ولكنه سيتطلب ما يصل إلى 5 جيجاواط من الطاقة لتشغيله، أي ما يعادل نحو ما تستهلكه مدينة كبيرة مثل نيويورك، وكل ذلك لحاسوب واحد فقط!

3- أمازون:

أعلنت أمازون خلال شهر أكتوبر الماضي توقيع 3 اتفاقيات لتطوير مفاعلات نووية صغيرة في الولايات المتحدة، إذ تعمل أمازون مع شركة (Energy Northwest) لتطوير أربعة مفاعلات نووية صغيرة، من المتوقع أن تولد 320 ميجاواط في المرحلة الأولى، مع إمكانية الزيادة إلى 960 ميجاواط.

وعلاوة على ذلك، تستكشف أمازون إمكانية تطوير المفاعلات النووية الصغيرة مع شركة (Dominion Energy) في فرجينيا، مما يضيف ما لا يقل عن 300 ميجاواط لتلبية طلب الطاقة المتزايد. كما تتضمن الصفقة الحالية لأمازون مع شركة Talen Energy استثمارًا بقيمة تبلغ 650 مليون دولار في مركز بيانات في بنسلفانيا يعمل بالطاقة النووية مباشرة.

ومن ثم تدفعنا كل هذه الاستثمارات الضخمة للتساؤل عن المفاعلات النووية الصغيرة وكيف تختلف عن المفاعلات التقليدية؟

ثانيًا؛ ما المفاعلات النووية الصغيرة؟

المفاعلات النووية الصغيرة، هي مفاعلات نووية متقدمة صغيرة الحجم، مصممة لتوليد ما يصل إلى 300 ميجاواط من الكهرباء النظيفة، وهو ما يمثل ثلث ما تنتجه المفاعلات التقليدية.

كما تمتاز هذه المفاعلات بمرونتها وقابليتها للتكيف، إذ يمكن تصنيعها في المصنع ونقلها كوحدات يمكن تجميعها في موقع المفاعل، لذلك تُعدّ بديلًا مثاليًا للمفاعلات النووية التقليدية الكبيرة، التي يجب أن تكون مصممة لمواقع معينة، مما يؤدي أحيانًا إلى تأخير البناء.

وعلاوة على ذلك؛ تعتمد المفاعلات النووية الصغيرة على مجموعة متنوعة من سوائل التبريد، بما يشمل: الماء الخفيف والمعادن السائلة والملح المنصهر، مما يوفر مرونة عالية في التصميم. وتتميز هذه المفاعلات بأنظمتها الأمنية القوية (Inherent Safety)، التي تعتمد على الدورة الطبيعية لتبريد القلب، مما يقلل من الاعتماد على التدخل البشري ويحسن الأمان بنحو كبير.

وتُشير تقديرات وكالة الطاقة النووية الأمريكية إلى أنه بحلول عام 2035 يمكن أن يصل سوق المفاعلات النووية الصغيرة العالمي إلى 21 جيجاواط من الطاقة.

ثالثًا؛ لماذا الطاقة النووية تحديدًا وليس طاقة الرياح أو الطاقة الشمسية؟

تتطلب مراكز البيانات المستخدمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية. ومع تزايد حجم هذه النماذج وتعقيدها، يزداد طلب الطاقة بنحو كبير. وفي الوقت الحالي، تعتمد معظم مراكز البيانات على الطاقة الكهربائية المنتجة من الوقود الأحفوري، مما يساهم في زيادة الانبعاثات الكربونية.

ويظهر هنا تساؤل مهم، ما مقدار الطاقة التي تستهلكها النماذج اللغوية الكبيرة؟

يستهلك تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة الكثير من الطاقة، فعلى سبيل المثال نموذج (GPT-3) الذي يحتوي على 175 مليار معلم، يستخدم 1287 ميجاواط في الساعة، في حين يستخدم نموذج DeepMind الذي يحتوي على 280 مليار معلم، ما يصل إلى 1066 ميجاواط في الساعة،  وهذا يعادل نحو 100 ضعف متوسط الطاقة التي تستخدمها ​أسرة أمريكية في عام واحد، مما يؤكد الأثر البيئي الكبير لهذه الصناعة.

وتسعى الشركات جاهدة إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2030 أو 2035، ولكن الاعتماد الكلي على مصادر الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح يواجه تحديات كبيرة، مثل التفاوت في الإنتاج بسبب الظروف الجوية، فطاقة الشمس غير متوفرة ليلًا، وطاقة الرياح تتأثر بالتقلبات الجوية، مما يتطلب حلولًا تخزينية وإدارية معقدة لضمان استمرارية التشغيل.

وهنا تبرز الطاقة النووية كحل واعد لتلبية هذا الطلب المتزايد، وذلك لعدة أسباب:

  • الطاقة العالية: تستطيع المفاعلات النووية توليد كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية في مساحة صغيرة نسبيًا، مما يجعلها مثالية لتلبية احتياجات مراكز البيانات الضخمة.
  • الموثوقية: تتميز الطاقة النووية بكونها مصدرًا ثابتًا وموثوقًا للطاقة، على عكس مصادر الطاقة المتجددة المتقلبة مثل الشمس والرياح.
  • انخفاض الانبعاثات الكربونية: تُعدّ الطاقة النووية مصدرًا نظيفًا للطاقة، إذ لا تنتج غازات دفيئة أو ملوثات أخرى، مما يساهم في تحقيق أهداف مكافحة تغير المناخ.

رابعًا؛ ما التحديات التي تواجه الولايات المتحدة في تطوير المفاعلات النووية الصغيرة؟

التحدي الرئيسي الذي يواجه الولايات المتحدة في هذه الصناعة، هو بناء أول مفاعل نووي صغير، فحتى الآن لا يوجد أي مفاعل نووي صغير قيد التشغيل أو الإنشاء في الولايات المتحدة كلها. فوفقًا لوكالة الطاقة النووية، هناك ثلاثة مفاعلات نووية صغيرة فقط تعمل في العالم، اثنان في الصين وروسيا، الخصمان الجيوسياسيان المركزيان للولايات المتحدة، كما يوجد مفاعل اختباري يعمل في اليابان.

وتعمل الشركات الأمريكية حتى الآن على تطوير تصميم المفاعلات النووية الصغيرة، وتمتلك الولايات المتحدة الآن نحو 70 تصميمًا للمفاعلات الصغيرة، ولكن لم يحصل منها إلا تصميم واحد منها فقط على الموافقة لبدء البناء، وهو مشروع (Kairos Power) الذي سيكون في ولاية تينيسي.

ويعزى السبب في هذا التأخير إلى أن الموافقات على التصميم، التي تستغرق عادة عدة سنوات نظرًا إلى تعقيد تصميمات المفاعلات ومخاطر المواد المشعة.

وأوضح أليسون ماكفارلين، الرئيس السابق للجنة التنظيمية النووية الأمريكية، أن توحيد أنظمة الطاقة النووية على مستوى العالم أمر شبه مستحيل. وذلك لأن كل دولة تمتلك فلسفة خاصة بها في التعامل مع هذا المجال الحيوي، مما يجعل من الصعب جدًا الوصول إلى إطار تنظيمي موحد.

وشدد رافائيل جروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، على ضرورة تطوير أنظمة تنظيمية مرنة قادرة على مواكبة التطورات السريعة في صناعة الطاقة النووية. وأشار إلى أن الإجراءات التنظيمية المطولة التي تستغرق سنوات عديدة تعيق نمو هذه الصناعة، واقترح أن تستلهم الصناعة النووية من قطاع الطيران، الذي يعتمد على معايير عالمية موحدة لتصميم الطائرات وتشغيلها، مما يساهم في تحسين الجودة وتقليل التكاليف.

بالإضافة إلى ذلك، تحتاج المفاعلات النووية الصغيرة إلى الوقود النووي العالي التخصيب (HALEU)، الذي يتميز بنسبة تخصيب أعلى من الوقود المستخدم حاليًا في المفاعلات التقليدية، مما يجعله أكثر كفاءة وقادرة على إنتاج الطاقة.

ويتمتع وقود (HALEU) بمستوى أعلى من التخصيب من وقود (اليورانيوم 235) المخصب بنسبة تبلغ 5%، وهو النظير الانشطاري الرئيسي الذي ينتج الطاقة أثناء التفاعل المتسلسل، والذي تستخدمه المفاعلات النووية التقليدية بحسب وزارة الطاقة الأمريكية.

إذ يتطلب وقود (HALEU) تخصيب بنسبة تتراوح بين 5 و 20%، مما يجعله أكثر كفاءة وقدرة على إنتاج أكبر قدر من الطاقة في مفاعلات أصغر حجمًا، كما يساهم في تحسين أداء المفاعلات الصغيرة وزيادة عمرها التشغيلي، إذ يساعد هذا الوقود عنصر الصوديوم المستخدم في عملية التبريد على الاستمرار لمدة أطول، وينتج المزيد من الطاقة باستخدام وقود أقل.

ولكن المشكلة هنا أن إنتاج هذا الوقود على نطاق تجاري في الولايات المتحدة لا يزال محدودًا جدًا، والمصدر المهيمن عليه عالميًا هي روسيا، وقد وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال شهر مايو الماضي قانون يحظر على الولايات المتحدة استيراد اليورانيوم من روسيا.

وتقدر وزارة الطاقة الأمريكية حاجة الولايات المتحدة إلى أكثر من 40 طنًا متريًا من هذا الوقود بحلول نهاية العقد الحالي. ولتلبية هذا الطلب المتزايد، تعمل وزارة الطاقة الأمريكية على تطوير حلول مبتكرة لإنتاج وقود HALEU من خلال إعادة تدوير الوقود النووي المستعمل من مفاعلات الأبحاث. وستوفر هذه الحلول كميات صغيرة جدًا من هذا الوقود على المدى القريب، ولكنها لا تزال غير كافية لتلبية الاحتياجات المستقبلية للصناعة.

خامسًا؛ الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية.. شراكة واعدة أم تهديد وجودي؟

يتغلغل الذكاء الاصطناعي في شتى جوانب حياتنا اليومية، ولكن أنظمة الطاقة النووية لا تحتاج إليه، إذ تعتمد هذه الأنظمة على مبادئ فيزيائية معروفة وقابلة للتنبؤ ولا تحتاج إطلاقًا إلى تعقيدات الذكاء الاصطناعي. كما تتعامل الجهات التنظيمية حول العالم، وعلى رأسها اللجنة التنظيمية النووية الأمريكية (NRC)، مع هذا الأمر بحذر شديد وتمنع إدماجه في هذه الأنظمة.

ومن ثم يمكننا القول إن العلاقة بين الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي، هي علاقة أحادية، إذ يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى الطاقة النووية لتشغيل مراكز البيانات، ولكن تشغيل المفاعلات النووية نفسها لا يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي بل يُحظر الاعتماد عليه.

ولكن الخطر في المفاعلات النووية الصغيرة يأتي من تصميمها، لذلك تستغرق الجهات التنظيمية عادة عدة سنوات للموافقة عليه. ولأنها تقنية جديدة نسبيًا، فإن الكثير من جوانب تصميمها وسلامتها تكون غير مسبوقة، مما يستدعي دراسات عميقة وتقييمات شاملة، وتعزيز التعاون الدولي، وهذه النقطة تفتقد إليها الولايات المتحدة التي تشن حروب اقتصادية وتجارية كبيرة على كل من الصين وروسيا الرواد في هذا المجال.

نسخ الرابط تم نسخ الرابط

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق