في الإثنين الماضي (16 الجاري)، كان المستشار الألماني أولاف شولتس، ومنافسوه يتبادلون الإهانات في قاعات البرلمان.
وكان ذلك اليوم الأخير لحكومة شولتس الائتلافية، وخسر تصويت الثقة الذي دعا إليه، ما يعني أن البلاد تتجه إلى انتخابات فيدرالية مبكرة في 23 فبراير المقبل.
ولا يعد مثل هذا التصويت – عادة – سوى إجراء فني يتطلبه الدستور الألماني. وقد استخدمه الديمقراطيون الاجتماعيون والمحافظون، على حد سواء، مرات عدة في الماضي، للوصول إلى انتخابات مبكرة.
لكن هذه المرة، كان الأمر صعباً، فخلال النقاش وجّه شولتس، انتقادات حادة لشركائه في الائتلاف، معتبراً أنهم افتقروا إلى «النضج الأخلاقي» المطلوب لتولي المناصب العامة، فيما وصف السياسي المحافظ والمستشار القادم المحتمل، رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي، فريدريش ميرتس، نائب شولتس من حزب الخضر، روبرت هابيك، بأنه «وجه الأزمة الاقتصادية». كما وصف ميرتس، المستشار الحالي (شولتس)، بأنه «إحراج عالمي» لألمانيا. ورد شولتس لاحقاً في مقابلة تلفزيونية بتقليل شأن ميرتس ووصفه بأنه «معروف بكلامه الفارغ».
إهانات شخصية
وكانت هذه الإهانات الشخصية من النوع المحظور في ألمانيا، لكن الآن باتت الديمقراطية الألمانية ترزح تحت ضغوط غير مسبوقة من الداخل والخارج. وفقدان اللياقة خلال مناقشة الإثنين الماضي، دليل على ذلك. وربما تكون ألمانيا – الأكثر قوة في القارة – متجهة إلى اختبار أكثر قسوة من أي شيء منذ إعادة التوحيد قبل أكثر من ثلاثة عقود.
وتعيش ألمانيا في ظل أزمة اقتصادية شديدة ناجمة عن أسعار الطاقة المرتفعة، والقرارات المستندة إلى إدارة سيئة. وباتت شركات السيارات العملاقة، وهي مصدر فخر ألمانيا، سابقاً مثل شركة «فولكس فاغن»، تخطط الآن لتسريح آلاف الموظفين. وقد يواجه فخر الهندسة الألمانية، حدثاً على مستوى الانقراض، بمجرد أن يضرب التأثير الكامل لواردات السيارات الكهربائية الصينية، السوق الأوروبية.
صحيح أن ألمانيا غيرت مسارها جذرياً عن «السلمية» التي انتهجتها بعد الحرب العالمية الثانية، عندما فوجئت بالحرب في أوكرانيا. لكن الآن، وبينما ترسّخ روسيا ببطء وجودها في شرق أوكرانيا، يعمل المتطرفون في الجناحين اليميني واليساري في ألمانيا، على قيادة رد فعل عنيف ضد دعم المجهود الحربي الأوكراني. ويريد حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، إنهاء تسليم الأسلحة لأوكرانيا، ومنح النصر لبوتين. وحقق هذا الحزب المتطرف 18% من الأصوات في المرتبة الثانية، بعد حزب شولتس المعروف باسم الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
حزب اليسار المتطرف
ويعادي حزب اليسار المتطرف الجديد أوكرانيا، والاتحاد الأوروبي، والسياسة المتعلقة بالمهاجرين، لكنه يؤيد روسيا. ومن غير المؤكد ما إذا كان هذا الحزب قادراً على تجاوز عتبة 5% المطلوبة من الأصوات للحصول على مقاعد في البرلمان الألماني، لكنه نجح فعلاً في تغيير الخطاب العام.
ومن المثير للاهتمام أن اليمين المتطرف واليسار المتطرف من المقرر أن يستفيدا من ولاية ثانية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، إذ إنهما يشتركان معه في مشاعره ضد «النخب» والمهاجرين، والتجارة الحرة وأنصار العولمة، ووسائل الإعلام السائدة، والمنظمات الدولية مثل حلف شمال الأطلسي (ناتو).
وكان من المقرر أن تكون الانتخابات المقبلة في سبتمبر 2025، لكن نتيجة انهيار حكومة شولتس تغيرت هذه الأجندة، وذلك يعني أن ألمانيا ستواجه عودة ترامب إلى البيت الأبيض، دون حكومة قائمة. واعتماداً على النتيجة والمفاوضات اللاحقة، قد يستغرق الأمر حتى مايو أو يونيو، حتى يتم تشكيل ائتلاف جديد في برلين.
وتعد هذه كارثة قوية بالنظر إلى الوضع «الهش» في فرنسا، ثاني أهم اقتصاد في القارة الأوروبية. وإذا فشلت الحكومة الفرنسية الجديدة برئاسة فرانسوا بايرو، فقد تتجه فرنسا إلى أزمة دستورية كاملة، من شأنها أن تدمر رئاسة إيمانويل ماكرون نهائياً.
وضع حرج
وبالنظر إلى هذه الأحداث الكبيرة في القارة الأوروبية، فإنها قد تنجرف بلا قائد في الوقت الذي يكون فيه مستقبلها في وضع حرج. ووعد ترامب بفرض تعرفات جمركية على ألمانيا. وهدد بسحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي، وتعهد بإحلال السلام في أوكرانيا في غضون 24 ساعة من توليه منصبه، لكن لا تبدو كل الأمور قاتمة، فقد أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى إحداث عواقب غير مرغوب فيها «من وجهة نظر بوتين»، تتمثل في تحويل مركز الثقل في أوروبا إلى الشمال الشرقي. وأصبحت بولندا ودول البلطيق المدافعة عن موقف أمني أوروبي، أكثر قوة على الجانب الشرقي للقارة، إلى جانب السويد وفنلندا وجمهورية التشيك.
وهذه البلدان الأصغر، هي الآن، القادة الأوروبيون الجدد، في حين تواجه القوى الكبرى في أوروبا (الركائز التقليدية للتعاون عبر الأطلسي مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا)، صعوبة في الحفاظ على ترتيب بيتها، ما يتعين معه على الممر الشمالي الشرقي لحلف شمال الأطلسي، أن يدعم التحالف في الأشهر الخطرة المقبلة.
خلافة شولتس
وتعهد ميرتس المرشح الأبرز لخلافة شولتس، ببذل مزيد من الجهود في مجال الدفاع، ليس فقط لإرضاء ترامب، بل لمصلحة ألمانيا الوطنية الحقيقية. لكن لم يحدد من أين ستأتي مئات المليارات من اليورو التي سيتطلبها تحويل الجيش الألماني إلى قوة عاملة جاهزة للدفاع عن ألمانيا وحلف شمال الأطلسي.
ولا يمكن الفوز بالحرب الباردة الجديدة مع روسيا، في ظل وجود نظام كبح الديون الألماني، وهي القاعدة المالية التي تحد بشدة من الاقتراض على المستوى الفيدرالي وفي الولايات، لكن الأمر لا يتعلق بالدفاع فقط، إذ إن التحول في الاقتصاد الألماني الذي وعد به ميرتس، لن يحدث دون مزيد من الإنفاق الحكومي على التعليم والابتكار والبنية الأساسية والاستثمار.
وتقبل العديد من الألمان، هذا الواقع، فقد تسببت عقود من الإنفاق غير الكافي على ظهور بنية تحتية متهالكة، تحتاج إلى التحديث بشكل عاجل، من الحمامات المدرسية ذات الرائحة الكريهة، إلى شبكات كابلات الألياف، والطائرات دون طيار المسلحة.
ولابد أن يتحمل الحزب المسيحي الديمقراطي المحافظ – الذي حكم البلاد 16 عاماً، من أصل 20 عاماً الماضية – بعض المسؤولية عن الحالة «المزرية» التي وصلت إليها البلاد. ويعتمد الكثيرون على شجاعتهم في تغيير المسار وإخبار الناخبين بالحقيقة، فبحصولهم على 32% من الأصوات، يشكلون آخر حزب وسطي كبير في القارة، وربما في العالم.
وفي غياب حدوث معجزة، فإنهم في ظل نظام التصويت التمثيلي العالي في ألمانيا، سيضطرون على الأرجح، إلى تشكيل ائتلاف مع شريك واحد على الأقل، إما مع الديمقراطيين الاجتماعيين أو الخضر أو كليهما.
وهذا يعني أن السياسيين الذين يصرخون على بعضهم بعضاً، بحاجة إلى إيجاد أرضية مشتركة، عاجلاً وليس آجلاً. ويعد موسم الانتخابات الزمن الملائم لتقديم الرؤى البديلة، لأن ألمانيا عندما تذهب إلى الانتخابات، سيكون ذلك بمثابة اقتراع على الثقة، ليس فقط على حكومة شولتس الائتلافية التي خسرت أخيراً، بل أيضاً على النظام الحزبي بأكمله، وعلى النموذج الألماني، وعلى الديمقراطية ذاتها.
عن «الغارديان»
. شولتس وجّه انتقادات حادة لشركائه في الائتلاف، معتبراً أنهم افتقروا إلى «النضج الأخلاقي» المطلوب لتولي المناصب العامة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news